لماذا لا يكون القرآن الكريم من تأليف محمد؟
قال صاحبي وهو ينتقي عباراته:
لا أريد أن أجرحـك فأنا أعلـم اعتزازك بالقـرآن الكريم وأنا معك في أنـه كتاب قيم ، ولكـن لـمـاذا لا يكون من تأليـف محمد ؟ ، إن رجلا في عظمة محمد لا يستغرب منه أن يضع كتاباً في عظمة القرآن ، وسـوف يكون هذا منطقياً أكثر من أن نقول إن الله أنزله.
فإن لم نر الله ينزل من السماء شيئاً ، ونحن في عصر من الصعب أن نقنع فيه إنسـاناً بأن هناك ملاكاً اسـمه جبريل نزل من السماء بكتاب ليوحيّ به إلي أحد.
قلت في هدوء:
- بل نحن في عصر يسهل فيه تماماً أن نصدق بأن هناك ملائكة لا تُرى ، وبأن الحقائق يمكن أن تلقى إلى الإنسان وحياً ، فهم يتكلمون اليوم عن أطباق طائرة تنزل علي الأرض من كواكب بعيـدة وأشـعة غيـر منـظـورة تقتل ، وأمـواج لاسـلكـية تحدد الأهداف وتضربها ، وصور تتحول إلي ذبذبات في الهواء ثم تستقبل في أجهـزة صغيرة كعلـب التبغ ، وكاميرات تصور الأشباح ، وعيون ترى في الظلام ، ورجل يمشي علي القمر ، وسفينة تنزل علي المريخ.
لم يعد غريباً أن نسمع أن الله أرسـل ملكاً خفياً من ملائكته ، وأنه ألقى بوحيه علي أحد أنبيائه ، لقد أصبح وجود جبريل اليوم حقيقة مـن الدرجة الثانية ، وأقل عجباً وغرابة مما نرى ونسمع كل يوم.
أما لماذا لا نقول إن القرآن الكريم من تأليف محمد ﷺ ، فلأن القرآن بشكله وعباراتـه وحروفه وما احتـوى عليه من علـوم ومعارف وأسرار وجمال بلاغي ودقة لغوية هو مما لا يدخل في قدرة بشر أن يؤلفه ، فإذا أضفنا الي ذلك أن محمداً ﷺ كان أمياً ، لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم في مدرسة ولم يختلط بحضارة ، ولم يبرح شبه الجزيرة العربية ، فإن احتمال الشـك واحتمال إلقاء هذا السؤال يغدو مستحيلا ، والله يتحدى المنكرين أمثالك ممن زعموا أن القرآن مؤلف:
[قل فأتوا بسورة مثله ، وأدعوا من استطعتم من دون الله] ( یونس : ۳۸ )
استعينوا بالجن والملائكة وعباقرة الإنس وأتوا بسـورة من مثله ومازال التحدى قائماً ولم يأتي أحد بشيء ..وإذا نظرناً إلى القرآن في حياد وموضوعية فسوف نستعيد تماما أن يكون محمد ﷺ هو مؤلفه.
أولا : لأنه لو كان مؤلفه لبث فيه همومه وأشجانه ، و ونحن نراه في عام واحد يفقد زوجه خديجة وعمه أبا طالب ولا سند له في الحيـاة غيرهما ، وفجيعته فيهما لا تقدر ، ومع ذلك لا يأتى لهما ذكر في القرآن ولا بكلمة ، وكذلك يموت ابنه إبراهيم ويبكيه ، ولا يأتـي لـذلـك خبر في القرآن الكريم ، القرآن معـزول تماماً عن الذات المحمدية.
بل إن الآيـة لتأتـي مناقضة لـمـا يفعله محمد ﷺ وما يفكر فيه ، وأحياناً تنزل الآية معاتبة له كما حدث بصدد الأعمى الذي انصرف عنه النبي إلي أشراف قريش:
{ عَبَسَ وَتَوَلّى(١) أَن جاءَهُ الأَعمى(٢) وَما يُدريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى }
[عبس: ١ - ٣ ].
وأحياناً ما تنزل فتنقض عملاً من أعمال النبي ، قال تعالي:
{ما كانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكونَ لَهُ أَسرى حَتّى يُثخِنَ فِي الأَرضِ تُريدونَ عَرَضَ الدُّنيا وَاللَّهُ يُريدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ }
[الأنفال: ٦٦ - ٦٧ ].
وأحيانـاً يأمر القرآن محمدا ﷺ بأن يقول لأتباعه ما لا يمكن أن يقوله لو أنه كان يؤلف الكلام تأليفاً:
[قل ماكنت بدعاً من الرسل وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم] ( الأحقاف : 9 )
لا يوجـد نـبـي يتطوع من تلقاء نفسـه لـيـقـول لأتباعه لا أدرى مـا يفعل بي ولا بكم ، لا أملك لنفسى ضـرا ولا نفعا ، ولا أملك لـكـم ضـرا ولا نفعا ، فـإن هذا يؤدي إلـي أن ينفض عنـه أتباعه ، وهـذا ما حدث فقد اتخذ اليهود هـذه الآية عذراً ليقولوا :
ما نفع هذا النبي الذي لا يدري مادا يفعل به ولا بنا ، هذا رجل لا جدوى فيـه ، مثل هذه الآيات ما كان يمكن أن يؤلفها النبي لو كان يضع القرآن من عند نفسه.
ثانيـا: لو نظرناً بـعـد ذلك في العبـارة القرآنيـة لوجدنا أنها جديدة منفردة في رصفها وبنائها ومعمارها ليس لها شبيه فيما سـبق من أدب العرب ولا شـبيه فيما أتي لاحقـا بعد ذلك ، حتى لتـكـاد اللغة تنقسـم إلي شـعر ونثر وقرآن ، فنحـن أمام كلام هو نسيج وحده لا هو بالنثر ولا بالشعر ، فموسيقى الشعر تأتي م الوزن ومن التقفية فنسمع الشاعر ابن الأبرص الأسدى ينشد : أقفر من أهله عبيد ، فليس يبدى ولا يعيد هنا الموسيقى تخرج من التشطير ومن التقفيـة علي ا الممـدودة ، فهـي موسيقى خارجية ، أما موسيقى القـرآن فهي الدال موسيقى داخلية :
{ وَالضُّحى(١) وَاللَّيلِ إِذا سَجى }
[الضحى: ١ - ٢ ]
لا تشطير ولا تقفية في هذه العبارة البسيطة ، ولكن الموسيقى تقطر منها ، من أين؟ إنها موسيقى داخلية. اسمع هذه الآيات:
{ قالَ رَبِّ إِنّي وَهَنَ العَظمُ مِنّي وَاشتَعَلَ الرَّأسُ شَيبًا وَلَم أَكُن بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا }
[ مريم: ٤ ]
وهذه الآيات:
{ طه(١) ما أَنزَلنا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقى(٢) إِلّا تَذكِرَةً لِمَن يَخشى(٣) تَنزيلًا مِمَّن خَلَقَ الأَرضَ وَالسَّماواتِ العُلَى(٤) الرَّحمنُ عَلَى العَرشِ استَوى }
[طه: ١ - ٥ ]
فإذا تناولت الآيات تهديداً تحول بناء العبارة ونحتها إلى جلاميد صخر. وأصبح للإيقاع صلصلة نحاسية تصخ السمع:
{ إِنّا أَرسَلنا عَلَيهِم ريحًا صَرصَرًا في يَومِ نَحسٍ مُستَمِرٍّ(١٩) تَنزِعُ النّاسَ كَأَنَّهُم أَعجازُ نَخلٍ مُنقَعِرٍ }
[القمر: ١٩ - ٢٠ ]
كلمات مثل: [صَرصَراً - مُّنقَعَرٍ] ، كل كلمة كأنها جلمود صخر. فإذا جاءت الآية لتروى خبراً هائلاً كما في نهاية الطوفان
تقاصرت العبارات وكأنها إشارات "مورس" التلغرافية وأصبحت الآية كلها كأنها تلغراف مقتضب له وقع هائل:
{ وَقيلَ يا أَرضُ ابلَعي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقلِعي وَغيضَ الماءُ وَقُضِيَ الأَمرُ وَاستَوَت عَلَى الجودِيِّ وَقيلَ بُعدًا لِلقَومِ الظّالِمينَ }
[ هود: ٤٤ ]
هذا التلون فـي نحت الألفاظ وفي بناء العبارة وفي إيقاع الكلمات مع المعاني والمشاعر ، يبلغ فـي القرآن الذروة ويأتي الأمر و دائما منساباً لا تكلف فيه ولاتعمل.
ثالثا : إذا مضيناً في التحليل أكثر فإناً سنكتشف الدقة البالغة والإحكام المذهل ، كل حرف في مكانـه لا تقديم ولا تأخير ، لا تستطيع أن تضع كلمة مكان كلمة ، ولا حرفاً مكان حرف ، كل لفظة تم اختيارها من مليون لفظة بميزان دقيق.
وسنري أن هذه الدق البالغة لامثيل لها في التأليف.
انظر إلي هذه الكلمة [لَوَاقِحَ] في الآية : { وَأَرسَلنَا الرِّياحَ لَواقِحَ}
[ الحجر: ٢٢ ]
وكانوا يفسرونها في الماضى عـلي المعنى المجازي بمعنى أن الرياح تثير السحب فتسـقط المطـر فيلقـح الأرض بمعنى "يخصبهـا" ثم عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السحب إيجابية
التكهرب وتلقى بها في أحضـان السحب سالبة التكهرب فيحدث البـرق والرعد والمطر ، وهي بهذا المعنـى "لواقح" أيضاً ، ونعرف الآن أيـضاً أن الرياح تنقل حبوب اللقاح من زهرة إلي زهرة فتلقحها بالمعنى الحرفي ، ونعرف أخيراً أن المطر لا يسقط إلا بتلقيح قطيرات الماء بذرات الغبار فتنمو القطيرات حول هذه الأنوية من الغبار وتسقط مطراً.
فها نحن أولاء أمام كلمة صادقة مجازياً وحرفياً وعلمياً ، ثم هي بعد ذلك جميلة فنياً وأدبياً وذات إيقاع حلو.
هنا نرى منتهي الدقة فـي انتقاء اللفظة ونحتها ، وفي أخري:
{ وَلا تَأكُلوا أَموالَكُم بَينَكُم بِالباطِلِ وَتُدلوا بِها إِلَى الحُكّامِ لِتَأكُلوا فَريقًا مِن أَموالِ النّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمونَ }
[ البقرة: ١٨٨ ]
كلمة [وَتُدلُواْ].
مع أن الحاكم الذي تلقى إليه الأموال في الأعلي وليس في الأسفل ، لا ، إن القرآن يصحح الوضع ، فاليد التي تأخذ الرشوة هي اليد السفلي ولو كانت يد الحاكم ، ومن هنا جاءته كلمة [وتدلوا بها إلى الحكام] لتعبـر فـي بـلاغـة لامثيـل لها عن دناءة المرتشى وسفله.
وفي آية الجهاد:
[مالكم إذا قيل لكر انفوا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض] و ( التوبة : ٣٨ ).
القرآن يستعمل كلمة "أثاقلتم"بدلاً من تثاقلتم ، يدمج الحروف إدماجـاً ، ويلصقها إلصاقا ليعبر عن جبن الجبناء الذين يلتصقون بالأرض "ويتر بسـون" فيهـا من الخـوف إذا دعوا إلي القتال ، فجاءت حروف الكلمة بالمثل "متربسة".
[وفي آية: ولا قتل أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم]
(الأنعام: ١٥١).
[ولا تقتلوا أولدكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم] ( الإسراء : 31 ).
والفـرق بين الآيتين لم يأت اعتباطاً ، وإنما جاء لأسباب محسوبة ، فحينما يكون القتل من إملاق فإن معناه أن الأهل فقراء في الحاضر ، فيقول: نحن "نرزقكم" وإياهم.
وحينما يكون قتل الأولاد خشية إملاق فإن معناه أن الفقر هو احتمال في المستقبل ، ولذا تشير الآية إلى الأبناء فتقول نحن: "نرزقهم" وإياكم مثل هذه الفروق لا يمكن أن تخطر علي بال مؤلف.
وفي حالات التقديم والتأخير نجد دائما أنه لحكمة ، نجد أن السارق مقدم علي السارقة في آية السرقة ، في حين أن الزانية مقدمة علي الزاني في آية الزني وذلك لسبب واضح ، أن الرجل أكثـر إيجابية في السرقة ، أما في الزنى فالمرأة هـي التي تأخذ المبادرة ، من لحظة وقوفها أمام المرآة تضع "البارفان" ، "ولمسات التواليت" وتختار الفستان أعلي الركبة فإنهـا تنصب الفخاخ للرجل الموعود.
{ الزّانِيَةُ وَالزّاني فَاجلِدوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلدَةٍ}
[ النور: ٢ ].
{ وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقطَعوا أَيدِيَهُما}
[ المائده: ٣٨ ].
وبالمثل تقديم السمع علي البصر في أكثر من ١٦مكانا:
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَالأَفئِدَةَ]
[ النحل: ٧٨ ].
{سَمعًا وَأَبصارًا وَأَفئِدَةً}
[ الأحقاف: ٢٦ ].
{ أَسمِع بِهِم وَأَبصِر}
[ مريم: ٣٨ ].
{إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا }[ الإسراء: ٣٦ ].
{ وَما كُنتُم تَستَتِرونَ أَن يَشهَدَ عَلَيكُم سَمعُكُم وَلا أَبصارُكُم}[ فصلت: ٢٢ ].
{لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ }
[ الشورى: ١١ ].
دائما السمع أولاً.
ولا شك أن السمع أكثر إرهافاً وكمالاً من البصر إننا نسمع الجن ولا نراه ، والأنبياء سمعوا الله وكلموه ولم يره أحد.
وقـد تلقى محمد القرآن سمعاً ، والأم تميز بكاء ابنها في الزحام ولا تستطيع أن تميز وجهه. والسمع يصاحب الإنسان أثناء النوم فيظل صاحياً في حين تنام عيناه ، ومن حاول تشـريح جهاز السمع يعلم أنه أعظم دقة وإرهافاً من جهاز البصر ، وبالمثل تقديم المال على الولد:
{ يَومَ لا يَنفَعُ مالٌ وَلا بَنونَ(٨٨) إِلّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَليمٍ }[الشعراء: ٨٨ - ٨٩ ].
{ إِنَّما أَموالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجرٌ عَظيمٌ }
[ التغابن: ١٥ ].
{ لَن تُغنِيَ عَنهُم أَموالُهُم وَلا أَولادُهُم مِنَ اللَّهِ شَيئًا وَأُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُم فيها خالِدونَ }
[ آل عمران: ١١٦ ].
{ أَيَحسَبونَ أَنَّما نُمِدُّهُم بِهِ مِن مالٍ وَبَنينَ(٥٥) نُسارِعُ لَهُم فِي الخَيراتِ بَل لا يَشعُرونَ }
[المؤمنون: ٥٥ - ٥٦ ].
{ فَلا تُعجِبكَ أَموالُهُم وَلا أَولادُهُم إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِها فِي الحَياةِ الدُّنيا}
[ التوبه: ٥٥ ].
{ اعلَموا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَينَكُم وَتَكاثُرٌ فِي الأَموالِ وَالأَولادِ كَمَثَلِ غَيثٍ أَعجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ}
[ الحديد: ٢٠ ].
والأمثلة علي هـذا التقديم كثيرة والسر أن المال عند أكثر الناس أعز من الولد.
ثم الدقة والخفاء واللطف في الإعراب ؛ انظر إلي هذه الآية:
{ وَإِن طائِفَتانِ مِنَ المُؤمِنينَ اقتَتَلوا فَأَصلِحوا بَينَهُما}[ الحجرات: ٩ ].
مرة عوملت الطائفتان علـي أنهما جمـع "اقتتلوا" ومرة علي أنهما مثنى "فأصلحوا بينهما" والسر لطيف.
فالطائفتان في القتال تلتحمان وتصبحان جمعـاً من الأذرع المتضاربة ، في حـين أنهما في الصلح تنفصلان إلـي اثنين وترسل كل واحدة عنها مندوباً ، ومن هنا قال:
[وإن طآيفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما].
حتى حروف الجر والوصل والعطف تأتي وتمتنع في القرآن أسباب عميقة ، وبحساب دقیق محكم.
مثلا تأتي كلمة [يسئلونك] في أماكن عديدة من القرآن :
{ يَسأَلونَكَ ماذا يُنفِقونَ قُل ما أَنفَقتُم مِن خَيرٍ فَلِلوالِدَينِ وَالأَقرَبينَ وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَابنِ السَّبيلِ وَما تَفعَلوا مِن خَيرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَليمٌ }[ البقرة: ٢١٥ ].
{ وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي}
[ الإسراء: ٨٥ ].
{ يَسأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُل هِيَ مَواقيتُ لِلنّاسِ وَالحَجِّ}
[ البقرة: ١٨٩ ].
دائما الجواب بكلمة "قُل" ، ولكنها حين تأتي عن الجبال:
{ وَيَسأَلونَكَ عَنِ الجِبالِ فَقُل يَنسِفُها رَبّي نَسفًا }
[ طه: ١٠٥ ].
هنا لأول مرة جاءت "فَقُل" بدلاً من "قُل".
والسبب أن كل الأسئلة السابقة كانت قد سُئلت بالفعل ، أما سؤال الجبال فلم يكن قد سُئل بعد ، لأنه من أسرار القيامة ، وكأنما يقول الله:
فإذا سـألوك عن الجبال "فَقُل" ، فجاءت الفاء زائدة لسبب محسوب. أما في الآية:
{ وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَليَستَجيبوا لي وَليُؤمِنوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدونَ }
[ البقرة: ١٨٦ ].
هنا لا ترد كلمة "قل" لأن السـؤال عـن ذات الله ، والله أولي بالإجابة عن نفسه.
كذلك الضمير أنا ونحن.
ينكلـم الله بضمير الجمع حيثما يكون التعبير عن "فعل" إلهي تشترك فيه مجموع الصفات الإلهية كالخلق ، وإنزال القرآن الكريم وحفظه: { إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ }[ الحجر: ٩ ].
{ نَحنُ خَلَقناكُم فَلَولا تُصَدِّقونَ }
[ الواقعة: ٥٧ ].
{ إِنّا أَنزَلناهُ في لَيلَةِ القَدرِ }
[ القدر: ١ ].
{ أَفَرَأَيتُم ما تُمنونَ(٥٨) أَأَنتُم تَخلُقونَهُ أَم نَحنُ الخالِقونَ }[الواقعة: ٥٨ - ٥٩ ].
{ نَحنُ خَلَقناهُم وَشَدَدنا أَسرَهُم وَإِذا شِئنا بَدَّلنا أَمثالَهُم تَبديلًا }[ الإنسان: ٢٨ ].
و"نخن" هنا تعبر عن جمعية الصفات الإلهية وهي تعمل في إبداع عظيم مثل عملية الخلق.
أما إذا جاءت الآية في مقام مخاطبة بين الله وعبده كما في موقف المكالمة مع موسى ، تأتي الآية بضمير المفرد:
{ إِنَّني أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلّا أَنا فَاعبُدني وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكري }[ طه: ١٤ ].
الله يقول: "أَناَ" لأن الحضرة هنا حضرة ذات ، وتنبيها منه سبحانه على مسألة التوحيد والوحدانية في العبادة ، ونجد مثل هذه الدقة الشديدة في آيتين متشابهتين عن العبر تفترق الواحدة عن الأخرى في حرف اللام.
يقول لقمان لولده:
{ وَاصبِر عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِن عَزمِ الأُمورِ }
[ لقمان: ١٧ ].
وفي آية أخرى عن الصبر نقرأ: { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمورِ }
[ الشورى: ٤٣ ].
الصبـر في الأولي "مِن عَزمِ الأُمورِ "، وفي الثانية مِن عَزمِ الأُمورِ وسر التوكيد باللام في الثانية أنه صبر مضاعف ، لأنه صبر على عدوان بشرى لك فيه غريم ، وأنت مطالب فيه بالصبر والمغفرة وهو أمر أشد علي النفس من الصبر علي القضاء الإلهي الذي لا حيلة فيه.
ونفس هذه الملاحظة عن "اللام" نجدها مرة أخرى في آيتين عن إنزال المطر وإنبات الزرع: { أَفَرَأَيتُمُ الماءَ الَّذي تَشرَبونَ(٦٨) أَأَنتُم أَنزَلتُموهُ مِنَ المُزنِ أَم نَحنُ المُنزِلونَ(٦٩) لَو نَشاءُ جَعَلناهُ أُجاجًا فَلَولا تَشكُرونَ }
[الواقعة: ٦٨ - ٧٠ ] "أي مالحة"
وفي آية ثانية: و { أَفَرَأَيتُم ما تَحرُثونَ(٦٣) أَأَنتُم تَزرَعونَهُ أَم نَحنُ الزّارِعونَ(٦٤) لَو نَشاءُ لَجَعَلناهُ حُطامًا فَظَلتُم تَفَكَّهونَ }[الواقعة: ٦٣ - ٦٥ ].
في الآية الأولي "جَعَلناهُ" أُجَاجَا ، وفي الآية الثانية "لجَعَلناهُ" حطاما ، واللام جاءت في الثانية لضرورة التوكيد ، لأن هناك من سوف يدعى بأنه يستطيع أن يتلف الزرع كما يتلفه الخالق ، ويجعله حطاما.
في حين لن يستطيع أحد من البشر أن يدعى أن في إمكانه أن ينزل من سحب السماء مـطـرا مالحا فلا حاجة إلى توكيد باللام ، ونفس هذه الدقة نجدهـا في وصف إبراهيم لـربـه في القرآن الكريم بأنه: { وَالَّذي يُميتُني ثُمَّ يُحيينِ }
[ الشعراء: ٨١ ].
{ وَالَّذي هُوَ يُطعِمُني وَيَسقينِ }
[ الشعراء: ٧٩ ].
فجاء بكلمة "هُوَ: حينما تكلم عن "الإطعام" ليؤكد الفعل الإلهي ، لأنه سوف يدعى الكل أنهم يطعمونه ، ويسقونه ، علي حين لن يدعى أحد بأنه يميته ويحييه كما يميته الله ويحييه، ونجد هذه الدقة أيضاً حينما يخاطب القرآن المسلمين قائلا: { فَاذكُروني أَذكُركُم وَاشكُروا لي وَلا تَكفُرونِ }
[ البقرة: ١٥٢ ].
ويخاطب اليهود قائلا: { يا بَني إِسرائيلَ اذكُروا نِعمَتِيَ الَّتي أَنعَمتُ عَلَيكُم وَأَوفوا بِعَهدي أوفِ بِعَهدِكُم وَإِيّايَ فَارهَبونِ }[ البقرة: ٤٠ ].
فاليهود ماديون لا يذكرون الله إلا في النعمة والفائدة والمصلحة والمسلمون أكثر شفافية ويفهمون معنى أن يذكر الله لذاته لا لمصلحة ، وبنفس المعنى يقول الله للخاصة من أولي الألباب: { وَاتَّقونِ يا أُولِي الأَلبابِ }
[ البقرة: ١٩٧ ].
ويقول للعوام:
{فَاتَّقُوا النّارَ الَّتي وَقودُهَا النّاسُ وَالحِجارَةُ أُعِدَّت لِلكافِرينَ }[ البقرة: ٢٤ ].
لأن العوام لا يردعهم إلا النار ، أما الخاصة فهم يعلمون أن الله أقوى من كل نار ، وأنه يستطيع أن يجعل النار برداً وسلاما إن شاء.
ونجـد مثل هذه الدقة البالغة فـي اختيار اللفظ في كلام إبليس حينما أقسم علي ربه قائلا :{ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعينَ }[ ص: ٨٢ ].
أقسم إبليس بالعزة الإلهية ولم يقسم بغيرها ، فأثبت بذلك علمه وذكاءه ، لأن هذه العزة الإلهية هي التي اقتضت استغناء الله عن خلقه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ولن يضروا الله شيئا، فهو العزيز عن خلقه ، الغنى عن العالمين.
ويقول الله في حديثه القدسي: "هؤلاء في النار ولا أبالي ، وهؤلاء في الجنة ولا أبالي" ؛ وهذا مقتضى العزة الإلهية ، وهي الثغرة الوحيدة التي يدخل منها إبليس ، فهـو بها يستطيع أن يضل ويوسوس ، ، لأن الله لن يقهر أحداً اختار الكفر علي الإيمان ، ولهذا قال "فَبِعِزَّتِكَ" لأغوينهم أجمعين.
{ قالَ فَبِما أَغوَيتَني لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِراطَكَ المُستَقيمَ(١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِن بَينِ أَيديهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمانِهِم وَعَن شَمائِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكثَرَهُم شاكِرينَ }
[الأعراف: ١٦ - ١٧ ].
ذكر الجهات الأربع ، ولم يذكر من فوقهم ولا من تحتهم ؛ لأن "فوق" الربوبية ، "وتحت" تواضع العبودية ، ومن لزم مكانه الأدنى من ربه الأعلي لن يستطيع الشيطان أن يدخل عليه.
ثم ذكر إبليس أن مقعده المفضل للإغواء سـوف يكون الصراط المستقيم ، علي طريق الخير وعلي سجادة الصلاة ، لأن تارك الصلاة والسكير والعربيد ليس في حاجة إلي إبليس ليضله ، فقد تكفلت نفسه بإضلاله ، إنه إنسان خرب ، وإبليس لص ذكي ، لا يحب أن يضيع وقته بأن يحوم حول البيوت الخربة ، مثل آخر من أمثلة الدقة القرآنية نجده في سبق المغفرة علي العـذاب ، والرحمة علي الغضب في القرآن ، فـالله في "الفاتحة" هو الرحمن الرحيم قبل أن يكون مالك يوم الدين ، وهو دائماً يوصف بأنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، تأتي المغفرة أولاً قبل العذاب إلا في مكانين في آية قطع اليد: {يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ وَيَغفِرُ لِمَن يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ}
[ المائده: ٤٠ ].
لأن العقوبة بقطع اليد عذاب دنیوی ، تليه مغفرة أخروية وفي كلام عيسى يوم القيامة عن المشركين الذين عبدوه من دون الله ، فيقول لربه: { إِن تُعَذِّبهُم فَإِنَّهُم عِبادُكَ وَإِن تَغفِر لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ العَزيزُ الحَكيمُ }[ المائده: ١١٨ ].
فلا يقول فإنك أنت الغفور الرحيم تأدباً ، ويذكر لهم العذاب قبل المغفرة ، لعظم الإثم الذي وقعوا فيه ، ونجد هذه الدقة القرآنية مرة أخرى في تناول القرآن للزمن ؛ فالمستقبل ، يأتي ذكره علي لسان الخالق على أنه ماض:
{ وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَجَمَعناهُم جَمعًا }[ الكهف: ٩٩ ].
{ وَانشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَومَئِذٍ واهِيَةٌ }
[ الحاقة: ١٦ ].
{ وَبُرِّزَتِ الجَحيمُ لِلغاوينَ }
[ الشعراء: ٩١ ].
{ وَعُرِضوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَد جِئتُمونا كَما خَلَقناكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ بَل زَعَمتُم أَلَّن نَجعَلَ لَكُم مَوعِدًا }
[ الكهف: ٤٨ ].
والسر في أن كل الأحداث حاضرها ومستقبلها قد حدثت
حدثت في علم الله وليس عند الله زمن يحجب عنه المستقبل.
فهو سبحانه فـوق الزمان والمكان ، ولهذا نقرأ العبارة القرآنية أحياناً فنجد أنها تتحدث عن زمانين مختلفين ، وتبدو في ظاهرها مناقضة مثل: { أَتى أَمرُ اللَّهِ فَلا تَستَعجِلوهُ سُبحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشرِكونَ }
[ النحل: ١ ].
فالأمر قد أتى وحدث في الماضي ؛ لكن الله يخاطب الناس بألا يستعجلوه كما لو كان مستقبلاً لم يحدث بعد ، والسر كما شرحنا أنه حدث في علم الله ، لكنه لم يحدث بعد في علم الناس ولا تناقض ، وإنما دقة وإحكام ، وخفاء واستسرار ، وصدق في المعاني العميقة.
هذه بعض الأمثلة للدقة البالغـة والنحت المحكم في بناء العبارة القرآنية وفي اختيار الألفاظ واستخدام الحروف لا زيادة ولا نقص ، ولا تقديم ولا تأخير ، إلا بحساب وميزان ، ولا تعرف لذلك مثيلاً في تأليف أو كتاب مؤلف ، ولا نجده إلا في القرآن.
أما لمحات العلم في القران وعجائب الآيات الكونية التي أنت بالأسرار والخفايا التي لم تكتشف إلا في عصرنا ، والتي لـم يعرفها محمـد ﷺ ولا عصره فهي موضوع آخر يطول ، وله جلسة أخرى.
المصدر: كتاب "حوار مع صديقي الملحد"
كتاب حوار مع صديقي الملحد هو كتاب من تأليف الفيلسوف والطبيب مصطفى محمود، صدر سنة 1986م، يرد فيه على أسئلة الملحدين عن الدين الإسلامي، وعن تساؤلات قد يطرحها العقل البشري في فترة ما.
الكتاب عبارة عن وصف لمحاورة فكرية بين الدكتور مصطفى محمود وصديق خيالي ملحد، يطرح الأسئلة الإلحادية المعروفة مثل: "هل الله موجود؟" و"من خلق الله؟"....
تعليقات
إرسال تعليق